الثلاثاء، 27 مارس 2012

وثائق التآمر الإيراني على العراق قراءة في مذكرات مسؤول بالأمم المتحدة



 
وثائق التآمر الإيراني على العراق
قراءة في مذكرات مسؤول بالأمم المتحدة

د. عبد الواحد الجصاني*


القسم الأول
بتاريخ 27/5/ 2006 سلم وزير الخارجية الإيراني إلى وزير خارجية حكومة الاحتلال ملفاً يحتوي على لائحة اتهام ضد الرئيس الراحل صدام حسين وقيادة العراق الشرعية لتُقدَّم إلى ما يسمى (المحكمة الجنائية العراقية العليا) بهدف تجريم العراق بتهمة شن الحرب على إيران، وتسعى إيران من خلال هذه الخطوة إلى تثبيت مسؤولية العراق عن الحرب العراقية الإيرانية تمهيداً للمطالبة بتعويضات بمئات المليارات من الدولارات أو بالاستيلاء على حقول نفطية في جنوبي العراق، ومنها حقل (مجنون) النفطي لسداد هذه التعويضات.
إن الوثيقة الأساسية التي تستند إليها إيران في دعواها بمسؤولية العراق عن الصراع هي رسالة الأمين العام للأمم المتحدة خافير بيريز ديكويلار إلى رئيس مجلس الأمن المؤرخة 9/12/1991 التي جاء فيها (إن الهجوم على إيران يوم 22/9/1980 لا يمكن تبريره في إطار ميثاق الأمم المتحدة أو أية قواعد أو مبادئ معترف بها في القانون الدولي أو أية مبادئ أخلاقية دولية، وهو ينطوي على المسؤولية عن الصراع) (وثيقة الأمم المتحدة S/23273).
ولو عدنا إلى الوقائع لتبين أن رسالة ديكويلار هذه كانت الثمن الذي قبضته إيران في صفقة عقدتها مع الولايات المتحدة بوساطة الأمم المتحدة، صفقة تنتهك ميثاق الأمم المتحدة والقانون الدولي وأية مبادئ أخلاقية دولية، جوهر الصفقة هو الإفراج عن الرهائن الأمريكان الذين تم اختطافهم في لبنان خلال الفترة 1985-1988 مقابل توجيه الأمين العام للأمم المتحدة رسالة إلى مجلس الأمن يحمِّل فيها العراق مسؤولية شن الحرب على إيران تحت غطاء تنفيذ الفقرة السادسة من قرار مجلس الأمن 598 (1987) التي تقول (يُطلب إلى الأمين العام أن يستطلع بالتشاور مع إيران والعراق، مسألة تكليف هيئة محايدة بالتحقيق في المسؤولية عن الصراع، وأن يقدم تقريراً إلى مجلس الأمن في أقرب وقت ممكن).
تفاصيل هذه الصفقة مثبتة بالوقائع والأسماء في مذكرات وكيل الأمين العام للأمم المتحدة جيادومينيكو بيكو في كتابه الموسوم (رجل بلا سلاح) الصادر عام 1999، يستعرض فيه تفاصيل المحادثات السرية الطويلة التي أجراها خلال الفترة 1988-1991 مع الجانب الإيراني بدءاً بالرئيس رفسنجاني ووزير الخارجية ولاياتي، ومندوب إيران لدى المقر الأوربي للأمم المتحدة سايروس ناصري، ومندوب إيران لدى الأمم المتحدة كمال خرازي، ونائبه السفير جواد ظريف، إضافة إلى سفيري إيران في دمشق أخطري وفي بيروت زمانيان اللذين هيئا له لقاءاته بالخاطفين.
كما يستعرض السيد بيكو في مذكراته كيف تغيرت مطالب إيران مقابل إطلاق الرهائن الأمريكان في لبنان حسب تغير الظروف، فكانت خلال الحرب العراقية الإيرانية تركز على الحصول على الأسلحة وقطع غيارها من أمريكا وإسرائيل والتي عُرفت فيما بعد بفضيحة إيران غيت. وبعد وقف إطلاق النار في 8/8/1988 أصبح طلب إيران العاجل من أمريكا هو دعوة العراق بالعودة إلى اتفاقية الجزائر لعام 1965التي ألغاها العراق عام 1980 بسبب تدخل إيران في شؤون العراق الداخلية، وإطلاق سراح عناصر (الدعوة الإسلامية) الذين قاموا بتفجيرات في الكويت عام 1983، وإطلاق الأرصدة الإيرانية المجمدة في أمريكا.
وبعد دخول القوات العراقية الكويت وانفتاح المواجهة الأمريكية-العراقية على كل الجبهات وجدت إيران الفرصة سانحة لرفع سقف مطالبها، فطالبت باستخدام الفقرة السادسة من القرار 598 (1987) لإدانة العراق واعتباره مسؤولاً عن شن الحرب على إيران، ووافق الأمريكان وتمت الصفقة وأُطلق سراح الرهائن الأمريكان جميعاً، وبعد إطلاق سراحهم وجه الأمين العام للأمم المتحدة في 9/12/1991 رسالة إلى مجلس الأمن يبلغه فيها أن العراق يتحمل مسؤولية الحرب العراقية الإيرانية، وجدير بالذكر أن هذه الصفقة السرية جرت تحت غطاء سعي الأمم المتحدة لتحقيق تبادل للأسرى بين لبنان وإسرائيل، وكان الخاطفون يطالبون بإطلاق سراح السجناء اللبنانيين في إسرائيل (600 أسير)، وبالذات الشيخ عبد الكريم عبيد. إلاّ أن الصفقة انتهت بإطلاق واحد وتسعين منهم فقط، ولم يكن الشيخ عبيد من بينهم. كما أن السيد بيكو وعد إيران بأن تكون الصفقة مدخلاً لتحسين العلاقة بينها وبين أمريكا، لكن الأمريكان رفضوا ذلك بعد إطلاق آخر رهينة أمريكي.

موجز مذكرات بيكو

1- يقول بيكو إن الشيخ محمد حسين فضل الله بعد عودته من النجف إلى لبنان أنشأ حركة الدعوة الإسلامية في لبنان والتي ولد من رحمها حزب الله عام 1982.
2- ويقول بيكو إنه، خلال عمله ضمن فريق الأمم المتحدة لإنهاء الحرب العراقية الإيرانية، بدأ بإثارة موضوع الرهائن الغربيين في لبنان مع المسؤولين الإيرانيين لعلمه أن الرابط الإيديولوجي بين الثورة الإيرانية والمجموعات اللبنانية التي أعلنت مسؤوليتها عن أن خطف الرهائن لم يعد سراً، لكن المسؤولين الإيرانيين استمروا لسنوات إبلاغه بأن حكومتهم لا علاقة لها بهذه المجموعات، وفي عام 1989 عندما بدؤوا بالتفاوض معه حول الرهائن اعتذروا له عن موقفهم السابق، وقالوا إن سببه أن الظروف لم تكن ناضجة لبحث الموضوع، وأضاف (في نهاية عام 1988 خوَّلني الأمين العام، بعد أن أخذ موافقة الأمريكان، أن اتصل بالإيرانيين طلباً لمساعدتهم في إطلاق سراح الرهائن الأمريكان في لبنان، وكان أول اتصال لي يوم 14/3/1989 مع سايروس ناصري سفير إيران لدى المكتب الأوربي للأمم المتحدة في جنيف، وطلبت منه أن التقي بالرهائن لأطمئن على صحتهم وأن التقي بالخاطفين لأتعرف على مطالبهم وأكون وسيطاً لهم).
3- وفي 23/4/1989 التقى الأمين العام للأمم المتحدة (ديكويلار) في نيويورك بوزير الخارجية الإيراني ولاياتي، وعرض عليه مقترح الوساطة الذي قدمه بيكو لسايروس ناصري، ووعد ولاياتي بدراسة الطلب وأضاف (أن بعض اللبنانيين أخبروه بأن الرهينة الأمريكي هيغينس -ضابط أمريكي يعمل في قوات الأمم المتحدة في لبنان- يونيفيل) قُتل في تموز 1988 رداً على إسقاط الأمريكان طائرة مدنية إيرانية فوق مضيق هرمز).
4- وفي 30/5/1989 وخلال زيارة السيد بيكو إلى طهران لمتابعة مواضيع تتعلق بأفغانستان أخبره وزير الخارجية الإيراني ولاياتي أن الخاطفين يريدون لقاءه في مكان ما، لكنه لم يحدد موعداً للقاء.
5- وفي 17/8/1989 أبلغ ولاياتي وزير خارجية الباكستان أنه مستعد للمساعدة في إطلاق سراح الرهائن الغربيين في لبنان مقابل قيام الولايات المتحدة ببعض الخطوات تثبت من خلالها أنها لم تعدْ معادية لإيران.
وبعد ذلك بعدة أيام أرسل الرئيس بوش (الأب) مستشاره للأمن القومي السيد سكوكروفت إلى نيويورك وأبلغ ديكويلار أن بوش مستعد لخطوات متبادلة مع إيران للتخفيف من حدة التوتر بين البلدين وبما يسمح بإطلاق الرهائن.
6- واستناداً إلى هذا اللقاء ذهب بيكو إلى طهران ليلتقي الرئيس رفسنجاني يوم 25/8/1989، وينقل له رسالة بوش (الأب) في الرغبة بتحسين العلاقات بين البلدين، وأن بوش يريد إطلاق الرهائن الأمريكان في لبنان، وسيتخذ بالمقابل إجراء بشأن الأموال الإيرانية المجمدة في الولايات المتحدة ومبادرات أخرى استناداً إلى المبدأ الذي أعلنه يوم تنصيبه، وهو أن النوايا الحسنة تجلب نوايا حسنة. أجاب رفسنجاني أن علاقات بلاده انقطعت مع الخاطفين منذ فترة وهم ليسوا من جماعة حزب الله التقليديين، وأن بلاده أجرت الاتصال بهم سابقاً بناء على طلب ماكفرلن (مستشار الأمن القومي الأمريكي الذي زار طهران سراً عام 1985 لترتيب الصفقة التي عرفت لاحقاً بفضيحة إيران غيت) ولكن بعد عدم وفاء الأمريكان بوعودهم انزعجت هذه الجماعات، ومن الصعب أن نعيد الاتصال بهم، وأضاف رفسنجاني (إن الخاطفين يريدون أولاً إطلاق سراح الشيخ عبيد -خطفته إسرائيل من منزله في جنوب لبنان يوم 28/7/1989- كما أن أمريكا جمدت أرصدتنا بلا أساس قانوني، ومع ذلك تريدنا أن نتدخل في قضية لا مصلحة لنا في التدخل بها، ونحن مثل الرئيس بوش لدينا مشاغل داخلية، وعلى الأمريكان ألا ينتظروا منا شيئاً مقابل إطلاق أرصدتنا، ولكي نساعد أمريكا فعليها تقديم مبادرات حسن نية، ومن ذلك أن عليهم إيقاف عدائهم غير المبرر لنا).
7- وفي قمة بلغراد لحركة عدم الانحياز في أيلول 1989 التقى ديكويلار مع وزير خارجية إيران ولاياتي الذي طلب أن ترفع الولايات المتحدة، كخطوة أولى، التجميد عن 10% من الأرصدة الإيرانية، ثم بعد عدة أسابيع طلب ولاياتي من ديكويلار أن تدفع أمريكا تعويضات لركاب الطائرة المدنية الإيرانية التي أُسقطت فوق الخليج عام 1988.
8- خلال مشاركة الرئيس بوش (الأب) في أعمال الجمعية العامة للأمم المتحدة في أيلول 1989 أبلغ ديكويلار أنه علم بعرض ولاياتي إطلاق 10% من أرصدة إيران المجمدة ولم يعلق عليه. وبعد ذلك بعدة أيام أي في 19/9/ 1989 أبلغ جيمس بيكر ديكويلار أن بلاده لن تجيب على رسالة رفسنجاني حتى لا تبدو الولايات المتحدة متعطشة للتعامل مع إيران.
9- وفي بداية عام 1990 عُيّن كمال خرازاي مندوباً دائماً لإيران لدى الأمم المتحدة، وأبلغ بيكو أن شروط إيران للتوسط في موضوع إطلاق الرهائن في لبنان هي رفع التجميد عن الأرصدة الإيرانية ودعم أمريكا لاتفاقية الجزائر لعام 1975، وحث العراق على الانسحاب من بعض الأراضي الإيرانية التي لا يزال يحتلها).
10- ويقول بيكو (أغنانا النظام العراقي عن مناقشة طلبات إيران، ففي الثاني من آب 1990 دخلت القوات العراقية الكويت، وحررت جميع السجناء بضمنهم السبعة عشر الذين قاموا بتفجيرات الكويت، ثم فاجأنا صدام من جديد بقبوله في 15 آب 1990 باتفاقية الجزائر).
11- ويذكر بيكو أن عدد الرهائن في نهاية آب 1990 كان ستة أمريكان وبريطانيين وألمانيين، ويستعرض بيكو أسماء الرهائن الأمريكان وهم مدنيون، وفي أواسط شباط 1991 قام السفير كمال خرازي يإبلاغ بيكو أنه يسعى لترتيب لقاء له مع الشيخ فضل الله، وفي 13 /4/1991، سافر بيكو إلى طهران لترتيب موضوع اللقاء حيث التقى بوكيل الخارجية الإيراني، ومنها إلى دمشق، ومن دمشق إلى بيروت، ويضيف (في بيروت التقيت بالشيخ فضل الله، وهو الأب الروحي لحزب الله. وعبر الشيخ فضل الله عن أمله في أن تتحسن العلاقة بين أمريكا وإيران، وقال إنه ليس صاحب قرار في موضوع الأسرى لكنه مستعد للمساعدة، وأكد أن خطف الرهائن يتعارض مع عقيدته الإسلامية، وأثنى على دور الأمم المتحدة، وقال إن دورها يحفظ ماء الوجه للجميع ولا يعطي الانطباع بأن هناك صفقة ما).
وجدير بالذكر أن رأي السيد فضل الله هذا هو نفس رأي سكوكروفت الذي كان يلح على أن تظهر الأمم المتحدة أنها تسعى لتبادل الأسرى بين لبنان وإسرائيل حتى لا تبدو أن هناك صفقة تجري على حساب الرهائن ولكيلا تتعامل أمريكا مباشرة مع إرهابيين.
12- يقول بيكو إنه كان يضغط على الإيرانيين وعلى الخاطفين للإسراع في إنجاز الصفقة قبل نهاية عام1991 موعد ترك ديكويلار منصبه كأمين عام للأمم المتحدة.
13- التقى بيكو مع السفير جواد ظريف في 27 تموز 1991 الذي أبلغه أن حكومته تتحرك بسرعة لمساعدة الأمين العام في غلق ملف الرهائن قبل نهاية مدة الأمين العام، وأن الرئيس رفسنجاني يرغب في أن يزور ديكويلار طهران قريباً لوضع اللمسات الأخيرة على الاتفاق، وقال بيكو (كان جوهر اتفاقي مع ظريف هو أن تعمل إيران مع المجموعات اللبنانية لتحرير الرهائن الغربيين مقابل أن تقدم الأمم المتحدة الفقرة 6 من القرار 598، أما إذا استطعنا أن نحصل على أكثر من ذلك، أي تحرير السجناء اللبنانيين في سجون إسرائيل، وتقديم معلومات عن الدبلوماسيين الإيرانيين الأربعة المفقودين في بيروت وعن الجنود والطيار الإسرائيلي رون أراد المفقودين في لبنان، فسيكون ذلك كالقشطة التي توضع فوق الكعكة، لكن أصل اللعبة هي الفقرة السادسة. وكنا نعلم أن إيران تريد إدانة رسمية للعراق لشنه الحرب على إيران، لكننا لم نكن نعلم كم كان ذلك مهماً لإيران من الناحية السياسية). وأضاف بيكو : (قلت لظريف إننا نستطيع التعامل مع مقترحك حول الفقرة السادسة، فأجاب ستكون زيارة ديكويلار ناجحة لو نفذت الفقرة السادسة).
القسم الثاني
بتاريخ 27/5/2006 سلّم وزير الخارجية الإيراني إلى وزير خارجية حكومة الاحتلال ملفاً يحتوي على لائحة اتهام ضد الرئيس صدام حسين وقيادة العراق الشرعية لتُقدّم إلى ما يسمى (المحكمة الجنائية العراقية العليا) بهدف تجريم العراق بتهمة شن الحرب على إيران، وتسعى إيران من خلال هذه الخطوة إلى تثبيت مسؤولية العراق عن الحرب العراقية الإيرانية تمهيداً للمطالبة بتعويضات بمئات المليارات من الدولارات أو بالاستيلاء على حقول نفطية في جنوبي العراق، ومنها حقل مجنون النفطي لسداد هذه التعويضات، تفاصيل هذه الصفقة مثبتة بالوقائع والأسماء في مذكرات وكيل الأمين العام للأمم المتحدة جيادومينيكو بيكو في كتابه الموسوم (رجل بلا سلاح (الصادر عام 1999 يستعرض فيه تفاصيل المحادثات السرية الطويلة التي أجراها خلال الفترة 1988- 1991 مع الجانب الإيراني.
14- في 1/8/1991 التقى ديكويلار بمندوب إيران الدائم لدى الأمم المتحدة السفير خرازي وأبلغه أنه ينوي البدء بإجراءات تنفيذ الفقرة السادسة، ويريد أيضاً إغلاق ملف الرهائن بأسرع وقت.
15- وفي الأيام التي تلت لقاء ديكويلار مع خرازي عمل بيكو مع جواد ظريف على وضع تفاصيل مقترحات إطلاق سراح الرهائن وتنفيذ الفقرة السادسة.
16- وفي 7/8/1991 قام ديكويلار بإبلاغ سكوكروفت بهذه التطورات.
17- في 10/8/1991 أطلق سراح الرهينة الأمريكي السيد تريسي.
18- التقى بيكو في مقر السفارة الإيرانية في بيروت يوم 11/8/1991 مع السفير الإيراني زمانيان الذي أبلغه بأنه أجرى الترتيبات للقائه مع الخاطفين، وطلب منه الخروج من السفارة والتمشّي في الشارع، ومن هناك ستأتي سيارة لأخذه إلى مكان اللقاء، وجاءت السيارة والتقطته، وعُصبت عيناه وأُخذ إلى مقر الخاطفين، خلال حديثه مع الخاطفين الملثمين. ويذكر بيكو أن اللقاء ركز على موضوع إطلاق الأسرى اللبنانيين ولم يتفق فيه على شيء محدد. وتلت ذلك عدة لقاءات لبيكو مع الخاطفين يبدو أن هدفها إعطاء الانطباع أن الأمم المتحدة تتصل بالخاطفين لإطلاق سراح الرهائن وتحويل الأنظار عن الصفقة الإيرانية الأمريكية.
19- وفي يوم 20/8/1991 وصل بيكو إلى طهران للتحضير لزيارة ديكويلار. وفي يوم وصوله التقى بوزير الخارجية ولاياتي الذي كان شاغله الأساسي معرفة ما عملته الأمم المتحدة بشأن الدراسة التي تعدّها حول المسؤولية عن الحرب العراقية الإيرانية أو ما اصطُلح عليه بالفقرة السادسة. فأجابه بيكو أن ثلاثة أساتذة أوربيين أوكل لهم الأمين العام دراسة المسألة. وسأل بيكو ولايتي: هل ستكون زيارة ديكويلار لطهران ناجحة؟ أجاب ولايتي إنه مسرور لأن الفقرة السادسة تحت نظر الأمم المتحدة، وفهم بيكو مغزى إشارة ولايتي.
20- وفي لقاء ديكويلار برفسنجاني في طهران يوم 11/9/1991 بدأ رفسنجاني الحديث عن الفقرة السادسة وأهميتها، وسأل عن موعد صدور التقرير بشأنها فأجاب ديكويلار إنه يأمل إصداره في نهاية تشرين الأول، فأجاب رفسنجاني إن تقرير الفقرة السادسة مهم جداً لإيران، وإن إيران كانت تربط نهاية أزمة الرهائن بالإفراج عن الأموال الإيرانية المجمدة في الولايات المتحدة أما الآن فإنها أزالت هذا الربط وتركز على الفقرة السادسة.
21- بعد لقاء ديكويلار برفسنجاني التقى بيكو بالمفاوضين الإيرانيين من جديد الذين أمطروه بالأسئلة محاولين معرفة طبيعة وموعد صدور تقرير الفقرة السادسة، ويضيف بيكو (كان التقرير وسيلة الضغط الوحيدة لدينا على الإيرانيين. وبغض النظر عن مواقف الحكومات، لم أقبل أن أقترح على الأمين العام أن يطلق التقرير قبل إطلاق آخر رهينة أمريكي)، وفعلاً أُطلق جميع الرهائن الأمريكان ثم صدر التقرير (أي رسالة الأمين العام إلى مجلس الأمن بموجب الفقرة السادسة من القرار 598).
22- ويقول بيكو (بعد إطلاق جميع الرهائن الأمريكان استقبلنا الرئيس بوش أنا وديكويلار في البيت الأبيض وقلّدنا أوسمة، وكان خمسة من الرهائن الأمريكان المحررين حاضرين في الحفل. وكان هذا اليوم تاريخياً لسبب آخر وهو نشر رسالة الأمين العام إلى مجلس الأمن حول الفقرة السادسة الخاصة بالمسؤولية عن الحرب بين العراق وإيران. ولقد تطلّب الأمر منا شجاعة وإصراراً. صحيح أن هناك قليلاً من الشك حول مسؤولية العراق عن الحرب، ولكن من الممكن أن يثار موضوع أن التقرير كان ثمرة صفقة سهّلت فيها إيران عملية إطلاق الرهائن مقابل وثيقة تصف العراق بالمعتدي).
23- ويصف بيكو نهاية مهمته بالقول إنه بعد أن أُطلق جميع الرهائن الأمريكيين و91 سجيناً لبنانياً اقترح على سكوكروفت اقتراحاً متواضعاً بقيام شركة أوربية بتزويد إيران بقطع غيار نفطية يستوجب الحصول عليها موافقة أمريكا لكن سكوكروفت رفض المقترح، ولذا توجه في أواخر ربيع عام 1992 إلى طهران والتقى بالرئيس رفسنجاني وقال له إنه جاء ليبلغه بأنه نكث بوعده في أن تكون صفقة إطلاق الرهائن مقابل الفقرة السادسة مدخلاً لتحسين العلاقة الأمريكية الإيرانية حيث لم يقبل الأمريكان بادرة حسن نية بسيطة لتحسين العلاقة مع طهران. وقال إن رفسنجاني غضب وطلب منه مغادرة إيران بسرعة إذ لو سمع المتشددون بذلك فلن يسمحوا له بالمغادرة، وغادر إيران على عجل وقرر إنهاء عمله في الأمم المتحدة. ثالثاً: هل كانت رسالة ديكويلار قانونية وتستجيب لمتطلبات الفقرة السادسة من القرار 598؟
أجاز ميكافيلي استخدام وسائل غير مشروعة للوصول إلى هدف مشروع. أما هذه الصفقة فكانت استخداماً لوسائل غير مشروعة لتحقيق هدف غير مشروع. ولأن الصفقة أُعدّت على عجل بين أطراف لا تحترم القانون الدولي، فقد كان مضمون رسالة ديكويلار إلى مجلس الأمن متناقضاً مع الإجراءات المطلوبة بموجب الفقرة السادسة من القرار 598 ومخالفاً لميثاق الأمم المتحدة. وأدناه الملاحظات عليها:
1- تقول الفقرة الثانية من الرسالة (وفي أثناء المفاوضات التي جرت خلال السنوات الثلاث الماضية سنحت لي عدة فرص للتشاور مع الطرفين بشأن الفقرة السادسة. وفي حين أتاحت لي تلك المشاورات فهماً معيناً لوجهات النظر المتباينة التي يؤمن بها الجانبان، فإنها لم تصل إلى مرحلة يتولد فيها الشعور بإمكانية تقديم تقرير ذي مغزى إلى مجلس الأمن). هذه الفقرة تفضح الطبيعة السياسية للرسالة. فخلال السنوات الثلاث التي انقضت منذ نهاية الحرب العراقية الإيرانية لم يتولد لديه شعور بإمكانية تنفيذ الفقرة السادسة، فما الذي استجد الآن من حقائق أو وقائع بشأن موضوع الفقرة لكي يتولد لديه شعور بإمكانية تنفيذها؟ لا شيء غير أن إيران جعلت من تنفيذ هذه الفقرة لصالحها ثمناً لإطلاق المختطفين المدنيين الأمريكان في لبنان.
2- يقول ديكويلار في الفقرة الرابعة من رسالته (وبغية فهم الموضوع على أكمل وجه قررت أن أستشير على انفراد بعض الخبراء المستقلين). وهذا مخالف لما طلبته الفقرة السادسة التي تقول (يطلب إلى الأمين العام أن يستطلع، بالتشاور مع إيران والعراق، مسألة تكليف هيئة محايدة بالتحقيق في المسؤولية عن الصراع، وأن يقدم تقريراً إلى مجلس الأمن في أقرب وقت ممكن). وبموجب هذه الفقرة كان على الأمين العام أن يستشير العراق وإيران أولاً عن التوقيت المناسب لتنفيذ هذه الفقرة، ثم عليه أن يستشير الدولتين حول أسماء الخبراء ومؤهلاتهم والتثبت من حياديتهم ويأخذ موافقتهما عليهم. كما كان عليه أن يبلِّغ مجلس الأمن بأسماء الخبراء الذين اتفق مع العراق وإيران على تكليفهم بالمهمة.
ثم على الخبراء أن يعملوا كفريق لا أن يستشيرهم على انفراد. ولكون موضوع المسؤولية عن الصراع مسألة حساسة تترتب عليها مواقف والتزامات تؤثر في السلم والأمن الإقليمي والدولي فكان المفروض بفريق الخبراء أن يعكف على دراسة حجج وأسانيد الدولتين ويدققها، ويزور عاصمتي الدولتين ويلتقي مسؤوليهما ويتحقق من الوقائع المذكورة في وثائق البلدين. فمثلاً عندما يقول العراق إن لديه شاهداً حياً على شن إيران غارات واسعة على العراق قبل 22/9/1980 وهو الطيار الإيراني الأسير (لشكري). فالمطلوب أن يتحقق الخبراء من ذلك ويزوروا الطيار في سجنه في العراق ويستفسروا منه عن مهمته الحربية فوق العراق وتاريخ إسقاط طائرته. وبعد استكمال كل وسائل التحقق من وثائق الطرفين، يقدّمون تقريرهم إلى الأمين العام الذي ينقل استنتاجات الخبراء إلى مجلس الأمن لا أن يستخدم هو آراء الخبراء المزعومين للوصول إلى استنتاجات لا أساس قانوني لها، علماً بأن ديكويلار وجّه رسالتين إلى حكومتي العراق وإيران يطلب فيهما موقف الدولتين من موضوع الفقرة السادسة. إيران أجابت بتسليمه ملفاً كاملاً بينما استفسر العراق منه عن سبب الطلب وتوقيته. ولم يكلف ديكويلار نفسه إجابة العراق بل اكتفى بنقل وجهة نظر إيران فقط للخبراء المزعومين. وجدير بالذكر أن محكمة العدل الدولية عندما تنظر في قضايا أهون بكثير من موضوع المسؤولية عن الحرب تأخذ سنين من البحث والتقصي وسماع مرافعات الطرفين.
3- يقول ديكويلار في الفقرة السابعة من رسالته (وحتى لو كان هناك قبل اندلاع الصراع بعض تعدٍّ من جانب إيران على إقليم العراق، فإن هذا التعدي لم يكن يبرر العدوان العراقي على إيران الذي تبعه احتلال العراق المستمر لأراضٍ إيرانية خلال الصراع انتهاكاً لحظر استعمال القوة الذي يعتبر إحدى قواعد القانون الملزم). وهنا أيضاً تبرز مجانبته للحقيقة وتعدّيه على صلاحيات مجلس الأمن. فهو من جانب يقر باعتداء إيران على إقليم العراق لكنه يسمي ردّ العراق على هذا التعدي على أرضه عدواناً. كما أن إطلاق وصف (العدوان) ليس من اختصاصه كون مجلس الأمن هو الذي يقرر حصول عدوان من عدمه ومهمة الأمين العام هي (تنبيه مجلس الأمن إلى أية مسألة يرى أنها قد تهدد حفظ السلم والأمن الدولي -المادة 99 من الميثاق).
ولعل هذه السابقة الوحيدة في تاريخ الأمم المتحدة التي يعتدي فيها الأمين العام على صلاحيات مجلس الأمن بهذا الشكل الفاضح. أما إشارة الرسالة إلى (احتلال العراق المستمر للأراضي الإيرانية خلال الصراع) فهي غير صحيحة حيث انسحبت القوات العراقية من الأراضي الإيرانية عام 1982، وكانت مستعدة لهذا الانسحاب منذ 28/9/1980 لو وافق الإيرانيون على القرار 479 (1980). وبالمقابل كانت القوات الإيرانية تواصل احتلال أراضٍ عراقية طيلة فترة الصراع. وفي سنوات الصراع الأخيرة احتلت مواقع ومدناً عراقية هامة كالفاو والشلامجه وجزيرة أم الرصاص وحقل مجنون النفطي وأجزاء كبيرة من المنطقة الجبلية في شمالي العراق.
4- ولأن الصفقة عُقدت بين طرفين يتربص أحدهما بالآخر فقد جاءت الفقرة التاسعة من رسالة ديكويلار لتأخذ من الإيرانيين ما أعطتهم إياه في الفقرات السابقة حيث جاء فيها: (ومن رأيي أنه لا طائل من وراء تنفيذ الفقرة 6 من القرار 598. ولمصلحة السلم وتمشياً مع تنفيذ القرار 598 بصفته خطة سلام شاملة، يلزم الآن المضي في عملية التسوية. وما يستوجب العناية العاجلة الآن هو الحرص على إقامة علاقات سلمية بين الطرفين وعلى إقرار السلم والأمن في المنطقة بأسرها). أي أن ديكويلار يطلب من مجلس الأمن ألا يتخذ أي إجراء لتنفيذ الفقرة السادسة. وهنا يثار سؤال: إذا كان الأمين العام لا يرى طائلاً من تنفيذ الفقرة السادسة فلماذا استشار الخبراء وأصدر أحكاماً سياسية بشأن مضمونها.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق