الثلاثاء، 6 مارس 2012

"القضية السورية": بين خريف "البعث" وربيع الثورة - فادي شامية



يفضّل المعارضون للنظام السوري اليوم إطلاق مصطلح "القضية السورية" للتعبير عن مكونات طروحهم السياسية. لدى هؤلاء المسألة لا تُختصر بالثورة، ولا تنتهي بانتصارها، ولهذا فإن مصطلح "القضية السورية" يقصد به مرحلة الاستبداد التي بدأت بوصول حزب "البعث" إلى السلطة بانقلاب عسكري في 8/3/1963، ثم مرحلة الثورة من أجل استعادة الكرامة التي بدأت في 15/3/2011، ثم مرحلة بناء سوريا الحديثة التي ستبدأ بعد الانتصار العتيد للثورة.

ولا يقتصر الأمر على هذا التاريخ الطويل من الاستبداد، ولا على اليوميات المريرة لأطول ثورات "الربيع العربي"، وإنما للقضية السورية في فترة الاستبداد، كما الثورة، أركانٌ تجعل منها قضية ذات أبعاد إنسانية واجتماعية واقتصادية وسياسية... وإقليمية.

بدأ البعد الإنساني في "القضية السورية" اعتباراً من العام 1979؛ تاريخ الصراع بين نظام "البعث"، بقيادة حافظ الأسد، ومعارضيه وأبرزهم "الإخوان المسلمون"، وتفاقم مع إصدار الأسد الأب القانون رقم 49 عام 1980 الذي تنص مادته الأولى على أنه "يُعتبر مجرماً ويُعاقب بالإعدام كل منتسبٍ لتنظيم جماعة الإخوان المسلمين"، ما أدى إلى إزهاق حياة أرواح آلاف السوريين؛ شطْرُهم أُعدم بالشبهة ولم تكن له علاقة فعلية بالجماعة، ثم تفاقمت المأساة الإنسانية أكثر مع توالي مجازر النظام في جسر الشغور، وتدمر، وحلب... ثم مع ارتكابه المجزرة الأفظع في حماه عام 1982، التي أزهقت حياة أكثر من ثلاثين ألف سوري، فضلاً عن آلاف الجرحى، والمفقودين، والمعتقلين، ومئات المغتصبات، وتدمير شطر كبير من المدينة.

لم يقتصر البعد الإنساني للقضية السورية عند هذا الحد؛ إذ بنتيجة القمع والخوف على الحياة غادر مئات آلاف السوريين وطنهم، ليتشتتوا في أصقاع الأرض؛ منهم من يحمل جواز سفر لم يستطع تجديده، ومنهم من لم يحمل جواز سفر أو تأشيرة خروج أصلاً، ما جعله كاللقيط في مدن الشتات، وقد استمرت هذه الحال سنين طويلة؛ فالذي مات في الخارج لم يضمه تراب وطنه، والذي مات في الداخل لم يودعه أقاربه، ومن عاش استوطن بلداناً أخرى، ومن ظل قابضاً على جمر الحلم بالعودة؛ أضنته سنون المحنة القاسية.

في البعد الإنساني أيضاً آلاف المنسيين، الذين ورثهم بشار الأسد من أبيه، فلم يحرر نفسه من جريرتهم، بل أبقاهم وزاد عليهم، دونما أدنى اهتمام بمأساة عائلاتهم، التي لا تعرف عن مصيرهم إلى اليوم شيئاً، لا من الصليب الأحمر أو الهلال الأحمر، ولا من الأجهزة الأمنية السورية، اللهم إلا بعض المعلومات التي يبيعها معتقِلوهم مقابل المال... وهؤلاء أكثرهم سوريون وفيهم عدد كبير من اللبنانيين مجهولي المصير، الذين ينكر النظام وجودهم أصلاً.

كان هذا كله قبل الثورة، ولكن الأمر خلال الثورة تفاقم أكثر، فتجاوز الشهداء الآلاف العشرة، وزاد الجرحى عن ذلك، وبلغ المعتقلون عشرات الآلاف، وبرزت محنة النزوح إلى تركيا والأردن ولبنان، وسِجلُّ الأعداد لم يتوقف، ولا يُتوقع أن يتوقف عند أرقام قليلة، ما يعني أن ضحايا ومهجري ومعتقلي الثمانينات قد أضيفوا إلى ضحايا ونازحي ومعتقلي الثورة، ليشكّل مجموعهم ملفاً إنسانياً سيثقل كاهل أي سلطة تتولى بعد بشار.

وبما أن نظام "البعث" أسس لاستبداد الأقلية بالأكثرية، ثم لاستبداد عائلة وحلفائها وأنسبائها بالأقلية والأكثرية معاً، فقد تولدت مشكلة طائفية، ظلت مطموسة بالتسامح حيناً والخشية من القمع أحياناً، لكن المشكلة اليوم أصبحت ظاهرة، لأن 90% من ضباط الجيش الكبار ينتمون إلى الطائفة العلوية، التي لا تشكل أكثر من 10% من الشعب السوري، ولسوء الحظ فإن هؤلاء هم من يعطي الأوامر بالقمع، مستثنين المناطق ذات الغالبية العلوية، وما يزيد الطين بلة أن النظام نفسه انتهج سياسة تقليب الأقليات على بعضها وتخويفها من الأكثرية السنية، في محاولة منه لوأد الثورة، الأمر الذي سيترك ندوباً في العلاقات الاجتماعية، ستحتاج وقتاً ليس بالقليل لعلاجها بعد إسقاط النظام، هذا إذا استثنينا احتمال حصول اقتتال أهلي، بدفع من النظام أو بغفلة من الثوار، فيكون إذاك البعد الاجتماعي أعقد وأخطر، لا سيما إذا دخلت عليه التباينات الإثنية ما بين الأكراد والعرب.

وكما هي عادة المستبدين، فإن الاقتصاد الوطني لا بد أن يُسخّر لترسيخ حكمهم، وعلى هذا الأساس خرجت عائدات النفط السوري من الموازنة التي يحتاجها الشعب، وقامت الشراكة الاستغلالية بين آل الأسد وبعض العائلات الأخرى، وعلى رأسها عائلة مخلوف، التي استفادت من الشراكة مع السلطة لتحقيق سيطرتها على تجارة الكحول والسجائر والإسمنت والسيارات، والأسواق الحرة، وقطاع الخلوي (سيرياتل)، والعقار (راماك)، والسياحة والفنادق (شام القابضة والكورنيش السياحية)... وسخّرت الإعلام (الدنيا-الوطن) لخدمة الاستبداد...وليس سهلاً في سوريا المستقبل تحرير الاقتصاد من السيطرة العائلية ودفعه إلى الإمام، سيما أن أعباء الثورة وأكلافها المادية ستثقل السير نحو الأعلى، في بلد يُفترض أن يكون الدخل الفردي فيه أعلى من نظيره في دول الجوار، نظراً الى خيراته الكثيرة، لا العكس.

ويضاف إلى هذه الأبعاد جميعها؛ البعد السياسي المتمثل بخنق الحريات، والقمع، وسيطرة العسكر ورجال المخابرات على الحياة السياسية، وهو أمر لازم حقبة "حزب البعث"، وولّد في العام الماضي ثورة شاملة على "البعث" والمفاهيم التي فرضها على المجتمع؛ في التربية والتعليم، والجيش، والمؤسسات المدنية، والحياة السياسية.

وما سبق كله في كفة، والبعد الإقليمي للقضية السورية في كفة أخرى، ولعل هذا الأمر هو الذي يجعلها قضية معقدة ومختلفة في طبيعتها عن طبيعة الأوضاع التي سادت أو أعقبت ثورات بلدان "الربيع العربي"، ذلك أن النظام السوري ارتوى على مدى سنوات من تناقضات؛ عدائه المعلن لـ "إسرائيل" من جهة وحمايته الحدود مع كيانها من جهة أخرى، ودعمه الجماعات المقاومة لأميركا و"إسرائيل" من جهة والتعاون أو التقاطع مع سياستهما تحت عناوين شتى من جهة أخرى، ومحاربته الإرهاب في الداخل من جهة وتصديره إلى الخارج من جهة أخرى... وقد ولّد هذا الأمر ثنائيات مدهشة، وعلى سبيل المثال لا الحصر: التحالف مع دولة أصولية حتى النخاع هي إيران، وانتهاج النظام السوري العلمنة ومكافحة الأصولية!. ورفع شعار العروبة، والتحالف مع غير العرب في مواجهة مجموعهم أو خرق إجماعهم!. واستضافة فصيل "أخواني" فلسطيني هو حماس، وإعدام أي أخواني سوري في سوريا نفسها!. ودعم المقاومة في لبنان التي أنجزت تحرير الأرض، ومنعها في سوريا التي لا تزال أجزاء منها محتلة...!.

ولعل الأخطر في هذا المجال؛ هو التحالف القائم منذ عهد الأسد الأب والذي تعزز بشدة في عهد الابن- بين نظام ولاية الفقيه ونظام "البعث"، وهو تحالف زاد النظام العربي الرسمي ضعفاً، والعرب تفرقاً، والمسلمين انقساماً، وشكّل جسراً لعبور "المشروع الصفوي" إلى البحر الأبيض المتوسط، على مركب "القضية الفلسطينية"، فأشاع الاستبداد ودعمه، وفاقم المذهبية.
بالعودة إلى المعارضين السوريين؛ فإنهم للأسباب السابقة جميعها يناشدون العالم اليوم التدخل؛ لأن القضية مدوّلة من الأساس، والدعم المالي والعسكري والتسليحي والبشري سافر من إيران و"حزب الله"، فضلاً عن روسيا والصين والأنظمة الاستبدادية الأخرى في أميركا اللاتينية، ولأن الملفات الإقليمية الكثيرة التي يلعب فيها النظام السوري ستهز السلم في الإقليم كله، والأهم لأنها الثورة الوحيدة التي تواجه أربع قوى كبرى دفعة واحدة؛ نظام ولاية الفقيه في إيران، والسلطة التي يسيطر عليها "حزب الله" في لبنان، والنظام الخاضع للسيطرة الإيرانية في العراق، والنظام السوري نفسه، مدعوماً من دول عظمى كروسيا والصين.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق